إحيا بوقدير
من المؤكد أنه لا يعني نفس ما يفهمه العامة من الناس، إنه ليس نهاية بالتأكيد ولا هو بداية أخرى، إنه مجرد لحظة تجدّد في نفس الحياة، من الذبول إلى التوهج، فالشعراء لا يموتون، لأنهم ولدوا من رحم الخلود، كما أن بحثهم الدؤوب عن المعنى الخفي، يجعلهم في تماس دائم مع نبض الأبدية.
ولهذا لم نشعر بغياب أكثر شعراء أحواش شهرة وذيوع صيت يوم الأربعاء 1 غشت 2018، على الساعة السابعة صباحا، لم يصدق أكثرنا أن الصوت الفريد الذي ملأ الدنيا وشغل الناس لخمسين سنة، سيعبر بوابة الخلود ليستقر في أعماقنا بصيغة لم نألفها، لكن ذلك ما حدث فعلا.
ولد إحيا بن محمد أولهاشمي عام 1949 بقرية أفايانّ Afayann بمنطقة النيحيت Nnihit بإداوزدّوت Idawzddut، عاش طفولة عادية بمسقط رأسه انتقل بعدها برفقة والده إلى الدار البيضاء عام 1955، حيث دخل المدرسة، وما لبث أن عاد إلى مسقط رأسه عام 1956 حيث مكث إلى حدود سنة 1967 ، لينتقل وهو في الثامنة عشرة إلى البيضاء من جديد و يبدأ في العمل بالتجارة. وقد استطاع في هذه المرحلة أن يوثق صلاته بمجموعة من أبناء الجنوب الذين يمارسون فنّ أحواش بالدار البيضاء فكان يحضر سهراتهم بانتظام، غير أنّ ذلك لم ينسه متعة أحواش في موطنه الأصلي حيث سرعان ما جرّه الشوق إلى سوس من جديد واهتدى إلى العمل في نقل المسافرين بسيارته ما بين إغرم وتارودانت حتى يكون على مقربة من فضاءات “أسايس”، وقد قضى في ذلك 48 شهرا كان خلالها هائما شديد الولع بنظم الشعر عاشقا للطبيعة مسكونا بغواية النظم والإنشاد، وقد ساعده في ذلك صوته العاطفي الذي كان يتميز ببحّة ساحرة و حيوية وقدرة على التنغيم كان لها وقع السحر على مستمعيه، وقد حاول القايد العربي بلحارثي الذي كان قائدا بمنطقة ئغرم آنذاك إقناعه بالذهاب مع شركة “موغا” إلى فرنسا سنة 1969 غير أنه رفض بسبب ارتباطه الشديد بموطنه الأصلي وبفن أحواش. تفتقت موهبته الشعرية منذ صباه المبكر بتأثير الوسط الفني الذي ترعرع فيه، حيث عُرفت منطقة إداوزدّوت بشعرائها الكبار الذين أثروا في إحيا الطفل والشاب أيما تأثير، وخاصة منهم عمه الهاشمي و امحمد باخشين و مبارك بن زيدا ومحمد بلمهدي وبوسلام و آخرون.
وفي سنة 1972 سيكتشف إحيا منطقة “إسافن” Isaffn التي سيكون لها دور كبير في شهرته وإشعاعه الفني في الأطلس الصغير كلّه، و ذلك لرقّة الأشعار التي نظمها في تلك المنطقة وارتباطها بقصة حبه الأول الذي عاشه هناك، وكذا بسبب لقائه بعلي بيضني Bidni شاعر إسافن الشهير في محاورات ظلّت خالدة في ذاكرة جمهور أحواش.
و قد تعرّف بالدار البيضاء على مجموعة من أبناء الأطلس الكبير وسوس من ممارسي فن أحواش أمثال بولكانين Bulganin و أهواوي Ahwawi، مما أدّى به إلى الإنخراط في فرقة “أحواش تزنيت” التي تأسست منذ 1970 بالدار البيضاء، و قد لازمها إلى حدود 1976 حيث سينتقل بعدها إلى فرقة “تامت مازر » Tamt Mazr التي تأسست في ذلك التاريخ برئاسة الحسين بويدو Buydu، وسيصادف ذلك في هذه المرحلة التقاء إحيا بوقدير بالرايس لحسن أجماع، اللقاء الذي سيغير حياة الشاعرين ويفتح لهما آفاقا جديدة كلّ الجدّة، وأبواب المجد الفني على مصراعيه، و يتعلق الأمر بمحاورة ليلة “إداوليميت Idawlimit بمنطقة إداونيضيف (ناحية تارودانت) عام 1978، التي كانت أول لقاء بين الشاعرين، وهي المحاورة التي تعكس في حرارتها وحماستها قوة الشباب وقدرا كبيرا من احترام الشاعرين لبعضهما البعض.
لقد كان الرايس إحيا يتمتّع علاوة على موهبته الشعرية والفنية بذكاء استراتيجي جعله يضع خطّة جديدة لفنه و لمساره الإبداعي بعد اكتشافه لأجماع، فالتناغم المثير الذي حدث بين الشاعرين في لقائهما الأول جعل الرايس إحيا يدرك بأنّ ممارسة فن أنعيبار (الحوار الشعري) بالطريقة التقليدية لم يعد يجدي نفعا مع المتغيرات الجديدة التي طالت الحياة في البوادي والمدن على السواء، مما جعله يقتنع بضرورة تنظيم هذا الفن ونقله من الهواية إلى الاحتراف، خاصة بعد الرواج الكبير الذي عرفه الشريط الصوتي (الكاسيط)، وهذا ما قاد الشاعرين إلى التحالف مع أحد المقاولين الذين استثمروا في مجال الإنتاج السمعي البصري بالدار البيضاء، ومن الذين يدركون قيمة فن أحواش ويحترمون فنانيه ، وكانت نتيجة هذه المساعي ميلاد الثنائي إحيا / أجماع و تسجيل أزيد من سبعين شريطا صوتيا ما بين سنة 1978 و 1987، وهي السنة التي سيبدأ فيها إحيا مغامرة جديدة سيبعد فيها بالتدريج عن أجماع وعن فضاءات “أسايس” إلى احتراف مهنة رياسة الفرقة حيث كان يقود في إطار الأنشطة التي تقيمها وزارة الثقافة داخل المغرب وخارجه عدّة رقصات دفعة واحدة كـ”أهناقار” و “الدرست” وأحواش “ئمي ن تانوت”، بل جاوز إحيا مجال فنون أحواش إلى فن “أحيدوس” حيث أتقن تسيير رقصة قلعة مكونة و أحيدوس القباب، وقد ساعده في ذلك امتلاكه لموهبة التوقيع على الآلة الإيقاعية تالونت Tallunt منذ حداثة سنّه، و كذا قوة ملاحظته، ليصبح بعد ذلك واحدا من أكبر رؤساء فرق فنون الرقص الجماعي بالمغرب.
جال إحيا بموهبته ومهارته في قيادة الفرقة مختلف بلدان العالم (أزيد من 130 جولة في 85 دولة من القارات الخمس) و استطاع أن يحقق تجربة لم تتيسر لغيره من شعراء أحواش في تاريخ هذا الفن كلّه. كما استطاع بذلك أن يعرّف بهذا الفن العريق خارج الوطن كإيقاع وحركة ولحن و كلمة شعرية، و ذلك بعد أن أعاد إلى فن “أنعيبار” (الحوار الشعري المرتجل) حرارته داخل الوطن، وأسس لنهضة حقيقية لشعر أحواش ما زالت ممتدّة حتى أيامنا هذه.
يتميز إحيا الشاعر بقوة شخصيته و بشجاعته الأدبية حيث يقتحم غمار النظم والتحاور الشعري بقدم راسخة و ثقة في النفس تتجلّى في صوته الجهوري وحنكته وسبقه إلى فتح أبواب النظم وإلى إغلاقها حسب إرادته واختياره، وهي أبواب غالبا ما يختار منها الأكثر جدّية وإثارة لاهتمام الجمهور، وعندما يشعر بدبيب الملل إلى الحاضرين يباغت محاوره بتغيير لحن الإنشاد أو وزن الشعر مما يضفي جدّة على فضاء أسايس.
ويتميّز إحيا كذلك بالإكثار من التفصيل في شعره حيث يفضّل إيراد الجزئيات وتوليد الأفكار والصور على الإيجاز والتركيز، يساعده في ذلك قوة صوته وإلمامه الجيد بطرائق الإنشاد
ولإحيا طريقته الخاصة في الإنشاد وأداء الألحان حتى أنّ العديد منها سمّي باسمه رغم أنه لم يبتكرها بل فقط لأدائه إياها بطريقته الخاصة التي جعلت الكثيرين يعتقدون أنها إبداع محض له.
ويضفي دور “المايسترو” أو قائد الفرقة على حضور الرايس إحيا في أسايس طابعا خاصا، حيث يسمح له الجمع بين وظيفتي الشاعر وقائد الفرقة بالتحكّم في سير الرقصة والمحاورات أيضا، مما يجعل بصماته الفنية تغلب على حضور غيره من الشعراء في كثير من الأحيان.
ويمكن القول إن الرايس إحيا قد حاور أكبر عدد من شعراء أحواش المشاهير في مختلف مناطق المغرب، وقد كان سباقا بسبب افتتانه المبكر بالشعر و تفرغه له إلى السفر إلى مختلف المناطق لمقابلة شعرائها والتعرف على ألحانها وفنونها وعاداتها، وهو ما أكسبه مهارات وخبرات لم تتوفر لغيره من “إماريرن”، انعكست بشكل إيجابي على مرحلة احترافه للفن، كما جعلت منه “أماريرا” فوق العادة، يتخطّى حدود القبائل والمناطق والأقاليم.
في سنة 1979، تزايد تأزم العلاقة بين المغرب والجزائر بسبب قضية الصحراء، واستبدّ هذا الموضوع بالنقاش العمومي كما شغل القسط الوافر من الجلسات الخاصّة، كما أن هزيمة الفريق الوطني المغربي في كرة القدم أمام الفريق الجزائري زاد من تأزيم الوضع أآنذاك ،فأصدر الثنائي إحيا / أجمّاع شريطا صوتيا يتضمّن وجهة نظرهما شعريا في الموضوع، وقد جاءت مصاغة في صور رمزية جميلة تبعث على التأمل والتفكير، كما أن محاورتهما حول الهزيمة الكروية أثارت إعجاب الجميع، وجعلت من الثنائي الفني رمزا للحوار الشعري الملتزم بقضايا المجتمع والدولة والإنسانية.
ونظرا لوعي الفنان إحيا بتسارع تحولات المجتمع المغربي وبالتغير الحاصل في القيم وفي الأوضاع المادية للإنسان، فقد اهتمّ بتسجيل ذلك في حوارات كانت تعتمد التناقض والتضادّ بغرض إبراز الجوانب المختلفة للموضوع، كما كان الهدف هو عكس وجهات النظر المتباينة والسائدة في المجتمع، ومن بين هذه التحولات تزايد الفوارق بين البوادي والمدن، وتمايز وضعية المرأة في المجالين وكذا مشاكل الشباب وتربية الأطفال والصراع بين الأجيال والازمات الاقتصادية وفترات الجفاف والكوارث الطبيعية والأمراض الاجتماعية المختلفة، وهي قضايا اهتم بها الشاعر في مئات المحاورات سواء التي قام بتسجيلها في الأستوديو أو تلك التي أداها في فضاءات أسايس بمختلف مناطق المغرب.
لم يغفل الشاعر قضية من قضايا المجتمع إلا و تداولها في محاوراته، حتى ليجد المرء تحولات مرحلة بكاملها مدوّنة شعريا في أشرطة الثنائي المذكور الذي شغل الساحة الفنية الأمازيغية عقودا من الزمن، و هي محاورات تكتسي تارة طابعا سجاليا مباشرا أو طابعا رمزيا مغرقا في التخييل الباعث على التفكير والتأمل.
و للرايس إحيا شعر تأملي في الحياة يحمل عناصر فلسفته و رؤيته للإنسان ولتجاربه على الأرض، وقد لفت انتباهه على وجه الخصوص عدم المساواة بين البشر والفوارق في الاختيارات والحظوظ و “الأرزاق”..
ولم تغفل عين الشاعر عن مظاهر الوعي الهوياتي الجديد الذي ظهر لدى الفاعلين الجمعويين الأمازيغ في عدد من الحواضر المغربية منذ الستينات وخاصة في الدار البيضاء، فنظم قصيدة مطولة حول اللغة الأمازيغية وتجذّر الهوية الأمازيغية للمغرب.
وفي سنة 2014 انتخب رئيسا لجمعية “إماريرن” التي تضمّ شعراء أحواش بسوس والأطلس الكبير.
لقد استطاع الشاعر والفنان إحيا بوقدير بفضل مواهبه الفنية المتعددة أن يتجاوز الإطار المحلي والوطني إلى العالمي، وأن يُعرف بفن أحواش في عدد كبير من بلدان العالم، وقد نال شواهد تقديرية عالمية تسلم بعضها من شخصيات دولية مرموقة، كما ساهم بشكل فعّال في الرقي بصورة شعراء أحواش وإكسابها الاحترام اللائق بها، ناقلا بشكل ملموس فن أحواش من الهواية إلى الاحتراف. واستطاع خلال مساره الفني الطويل ـ وكان له الفضل الأكبر في ذلك ـ إزالة الحواجز بين المناطق والأنواع الفنية الأمازيغية، مقربا بين الأذواق والحساسيات سواء لدى الجمهور أو لدى الفنانين والشعراء الممارسين.
التعزية والتوشيح الرسميان:
أثار ذهول وغضبَ الجميع عدمُ صدور أية تعزية من الديوان الملكي لعائلة الفنان إحيا بوقدير، خاصة بعد أن أصدر نفس الديوان تعزية في وفاة الفنان الفكاهي “قشبال” الذي غادرنا بدوره يوما واحدا بعد رحيل إحيا ، كما شعر جمهور المواطنين الناطقين بالأمازيغية بمرارة كبيرة عندما لاحظوا كيف تجاهلت السلطات بالدار البيضاء جنازة الشاعر الكبير، بل حتى قناة “الدوزيم” التي تقع بجوار بيته لم تتحرك لتغطية جنازته، ولولا حضور القناة الثامنة لكان الإعلام الرسمي غائبا كليا عن الحدث.
من جانب آخر لا يفوتني بهذه المناسبة الأليمة، أن أخبر القراء الأعزاء بزيارة فاجأني بها شخصيا الرايس إحيا بعد سماعه بلائحة الفنانين الذين استقبلهم الملك لتوشيحهم، وكان من بينهم شبان بدأوا بالكاد مسارهم الفني في الأغنية الشبابية، كما كان من بينهم مغنية تؤدي أغاني بالخليجي والمصري تم توشيحها للمرة الثانية على التوالي، جاء الشاعر الفقيد يسأل عن المعايير المعتمدة في اختيار الفنانين الموشحين، وهو الذي قضى خمسين سنة بالتمام والكمال في حقل الإبداع الفني المغربي الرفيع والأصيل، كانت علامات المرارة والخيبة ترتسم على وجهه وهو يقول : “إذن لا شيء تغير ، إنه التمييز والعكرة يستمران بلا معنى”.
في انتظار أن يلتفت المسؤولون إلى هذا الفنان الكبير، وذلك بإطلاق إسمه على مركب ثقافي أو فني أو شارع بالدار البيضاء، نقول لإحيا بوقدير : كل رحيل وأنت بتألق، ودمت في سماء مغربنا نجما ساطعا إلى الأبد.